عندما لا ننظر الى الامور نظرة علمية منطقية، ولكن نظرة عاطفية منحازه، تظهر لنا مشكلات عديده تتوالد وتتوارثها الاجيال جيلا بعد جيل.
فالبحث العلمي الذي يستهدف دراسة اللهجات لا يخلو من صعوبة إن لم نقل معاناة بسبب القناعة المنتشرة بأن اللهجات ليست سوى صورة (خاطئة) عن اللغة الام. الأمر الذي جعل الكثيرين يعزفون عن الولوج في اغوار اللهجات وتمحيص خصائصها وتسلسل مسيرتها بين الشعوب. فلو نظرنا لتاريخ اللغات لوجدناها تحركت مع حركات الشعوب وتطورت مع تطورهم، فعاشت لغات وماتت اخرى. واللهجات ماهي الا لغات يتحدث بها مجموعة من الناس في مكان وزمان ما. وقد يكون لهذه اللهجات الحظ الوفير فتعتمد لغة رسمية تكتب ويرسم قواعدها النحوية والصرفية والصوتية كما حدث عند اعتماد لهجة جنوب لندن كلغة بريطانيا المعيارية او تبقى لغات شفوية على السنة الناس معرضة بذلك للتغير مع تغير الاجيال الى ان تموت. وهذا هو حال اللغات مثلها مثل حال الانسان يحيا ثم يموت.
و نتساءل هنا عن السبب القوي الذي أقنع اللغويين العرب في العصر الحالي بأن دراسة اللهجات المحكية لا تخدم اللغة الأم (الفصحى). في حين أن دراسة اللهجات الحية في اغلب الاحيان تقود الى توضيح امور عدة تمتد جذورها الى اللغة الام. بالإضافة إلى أننا بدراسة اللهجات نستقي المعلومات عن مسيرة هجرات الشعوب و ومدى استقرارها أو تنقلاتها. ومن هنا، و من جراء تمحيص اللهجات المحكية الحديثة في الجزيرة العربية اتضحت امور عديدة شرحت علاقة الفصحى بباقي اللهجات القديمة والحديثة. و أقرب مثال على ذلك ما وجدناه في دراستنا حول الضاد. حيث عثرنا على صوت الضاد كما وصفه سيبويه منذ حوالي ما يزيد عن قرن. وكان هذا الاكتشاف نقطة انطلاق لأبحاث أخرى أوسع و أشمل كما عرضنا في قسم الدراسات الحالية من هذا الموقع.
لقد أكد ابن الجزري تفرد العربية بالضاد بقوله في التمهيد "وكذا ستة أحرف انفردت بكثرة استعمالها العرب، وهي قليلة في لغات العجم، ولا توجد في لغات كثير منهم، وهي العين والصاد والضاد والقاف والظاء والثاء ". وبالرغم من تميز الضاد وتفردها، كما يعتقد البعض، إلا أن وصفها أشكل على علماء اللغة والتجويد و حيَّر الباحثين قديماً وحديثاً.
وصف النحاة العرب القدماء نطق حرف الضاد أي - صوت الضاد - وصفا دقيقا، وذلك فيما يخص مكانها في الحلق وطريقة إخراجها. فقد عدّها الخليل بن أحمد في حيز الجيم والشين، وهما من الأصوات الغارية التي تخرج من الغار وهو سقف الحنك الصلب. فقال وهو يذكـر أحياز الحـروف في كتاب العين " ثم الجيم والشين والضـاد في حيـز".
أما سيبويه فقد وصف صوت الضاد في القرن الثاني الهجري وصفا دقيقا في كتابه " الكتاب" فيقول في إخراجها "ومن بين أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس مخرج الضاد". وهنا يحدد سيبويه مكان إخراج صوت الضاد بأنها جانبية. كما يذكر بانه من الاصوات المجهوره والرخوة والمطبقة.
الضاد الحديثة
بالرغم من استمرار شهرة اللغة العربية بالضاد، إلا أن الصوت الذي يستخدم اليوم لا يحمل صفات الضاد الواردة بكتب اللغويين القدماء، و يبدوان الضاد قد تعرضت للتغير والتطور، فضاد اليوم يصفه عبد التواب "هو عـبارة عن صوت أسناني لثـوي انفجـاري ( شـديـد ) مجهـور مفخم، ينطق بأن تلتصق مقدمة اللسان باللثة والأسنان العليا التصاقا يمنع مرور الهواء الخارج من الرئتيـن ، كما ترتفع اللهاة والجـزء الخلفي من سقف الحلق ( وهو المسمى بالطبـق ) ليسد التجويف الأنفي ، في الوقـت الذي تتذبذب فيه الأوتار الصوتية، وترتفع مؤخرة اللسـان قليلاً نحو الطبق ، ثم تزال هذه السـدود فجأة ، فيندفع الهواء المحبـوس إلى الخارج ، فنسمع الصوت". إذاً فالضاد صوت مجهور لثوي انفجاري مطبق. و هذا الصوت هو المعين كصوت الضاد الفصيحة فنجد كثيراً من علماء الصوتيات المحدثين عندما يصف مخرج الضاد يصفه كما سبق، انظر بشر وأنيس وحركات.
و يمكننا أن نستخلص بان التغير والتطور الذي تعرض له الضاد كان باتجاهين مختلفين: الأول حدث في لهجات الجزيرة العربية و نتج عنه إحلال الظاء مكان الضاد، والثاني حدث في اللهجات خارج الجزيرة العربية ونتج عنه تغيير الصوت الى صوت آخر جديد، وهو ما يستخدم الآن كصورة للضاد الفصيحة في اللغة العربية، ويبدو أن لهذا التطور سلسلة من التغيرات إلى أن وصل الحال على ما هو عليه.
تغير الضاد إلى صورته الحديثة (من جانبي رخو إلى لثوى شديد)
بالنسبة إلى تغير الضاد إلى صوت جديد استخدم في بعض اللهجات العربية خارج جزيرة العرب، نجد أن الضاد أصبح صوت لثوى شديد مجهور. وهذا الصوت هو الذي يعده العرب الآن الصورة الفصيحة للضاد. فيٌدرس في المدارس ويستخدم عند استخدام الفصحى. وهذا الصوت لم يذكره الخليل ابن احمد ولم يشرحه سيبويه وغيره من علماء اللغة العرب القدماء. إذن، فهو صوت مستحدث في اللغة العربية. ويبدوأن العرب استحسنوه ليفرقوا بين الضاد والظاء.
ومن ملاحظات علماء اللغة، أنه في حالة وجود صوتين متشابهين بالنسبة للمستمع، أي عندما يصعب التمييز بينها، فإنهما إما أن يندمجا فيحل واحداً مكان الأخر أو أن واحداً منهما يتغير ليأخذ صفات جديدة حتى يسهل التعرف عليه. ويبدو أن هذا ما حدث للضاد. قد حل الظاء محل الضاد وظلت كذلك في اللهجات التى لديها أصوات لثوية (مثل الثاء والذال) وذلك مثل اللهجات البدوية، وأصبحت صوتا جديدا في اللهجات التي ليس لديها أصواتٌ لثوية وذلك مثل اللهجات الحضرية.
وهنا نجد الظاء تستخدم مكان الضاد في بعض لهجات الخليج العربي واليمن وهو خلط يمتد إلى الكتابة في بعض الأحيان، بينما الضاد الحديثة تستخدم في الفصحى المنطوقة وفي بعض لهجات مصر وسوريا ولبنان و بعض المتحدثين من البحرين والعراق والأردن.
المراجع
العربية
ابن الجزري، محمد بن محمد الدمشقي، التمهيد في علم التجويد، تحقيق علي حسين البواب (الرياض: مكتبة المعارف ، 1405 هـ) ص102.
ابن جني،ابو الفتح عثمان ، سر صناعة الإعراب ، تحقيق حسن هنداوي (بيروت- دار القلم ، 1985م ) ج 1 /ص 47.
ابن الجزرى، الحافظ ابى الخير محمد بن محمد الدمشقى، النشر في القراءات العشر، صححه على محمد الضباع (بيروت- دار الكتب العالمية).ج 1 /ص219 .
ابن يعيش، موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش، شرح المفصل (بيروت- عالم الكتب) ج10/ص 127 .
أنيس، ابراهيم ،الاصوات اللغوية (القاهرة-مكتبة الانجلو المصرية،1992م) ص 48-50.
الجاحظ، أبي عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين ، تحقيق عبد السلام هارون ( القاهرة)ج 2/ص211 .
الجبورى، عبد الله، العربية لغة الضاد: ندوة دائرة علوم اللغة العربية، (بغداد، 1997م)ص 11.
الزمخشرى، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل، مذيل بحاشية الإمام العلامة أحمد بن محمد ، المعروف بابن المنير وتخريج أحاديث الكشاف للإمام الزيلعى (بيروت- دار الكتاب العربي، 1407هـ) ج4/ص713.
السيوطي، عبدالرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وآخرون. (القاهره- مكتبة دار التراث)،ج 1/ص562-563.
الصقلي محمد ،كتاب في معرفة الضاد والظاء (بيروت، 1985م).
الفراهيدي، الخليل بن أحمد ، العين ،تحقيق مهدى المخزومى ، ود. إبراهيم السامرائى.ج 1/ص58.
المبرد ، أبي العباس محمد بن يزيد ، المقتضب ، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة (القاهـرة، 1994م) ج 1 /ص 329 .
رمضان عبد التواب، " مشكلة الضادالعربية وتراث الضاد والظاء" مجلة المجمع العلمي العراقي، (1971م).
سيبويه، أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، الكتاب تحقيق عبدالسلام هارون (القاهرة- مكتبة الخانجى و الرياض- مكتبة الرفاعي ، 1982م) ج4/ص433.
عمر، أحمد مختار، دراسة الصوت اللغوي، (عالم الكتب، 1997م) ص 349.
كمال محمد بشر، الاصوات العربية (القاهرة- مكتبة الشباب، بدون تاريخ) ص 104-108 .
مصطفى حركات، الصوتيات والفونولوجيا (بيروت- المكتبة العصرية،1998م) ص 118-119
الأجنبية
Al-Azraqi M. 2007. Ad-dad in south-west Saudi Arabia as described by the old grammarians. Pages 43–50 in Proceedings of the 7th AIDA Conference, held in Vienna 5–9 September 2006. New Brunswick, NJ & London: Transaction Publishers
Al-Azraqi M 2010. The Ancient Dhad in Southwest Saudi Arabia, Arabica 57: 57–67.
Cantineau J.1960. Études de linguistique arabe (Mémorial Jean Cantineau). Paris: Klincksieck.
Dickins J. 1990. Extended Axiomatic Functionalism: A contrastive assessment with application to aspects of Arabic. PhD thesis, Heriot-Watt University, Edinburgh. [Unpublished].
Habtour M.1988. L'arabe parlé à Gaylhabban: Phonologie et morphologie. PhD thesis, University of the Sorbonne, Paris. [Unpublished].
El-Jindi A. 1983. Al-lahajat al-Κarabiyyah fi al-turath. Tripoli: al-Dar al-Κarabiyyah li-l-kitab.
Landberg C. 1901. Études sur les dialectes de l'Arabie Méridionale. i. Hadramaût. Leiden, E.J. Brill.
Landberg C. 1905 –1913. Études sur les dialectes de l'Arabie Méridionale. ii. Dathina. Leiden, E.J. Brill.
Samia Naïm-Sanbar, Le parler arabe de Rās-Beyrouth : la diversité phonologique, Paris : Geuthner, 255p. 1985.
Steiner R.C.1977. The Case for Fricative-Laterals in Proto-Semitic. New Haven, CT, American Oriental Society.
Versteegh K.1984. Pidginisation and Creolisation: The case of Arabic. Amsterdam, Benjamins.
Versteegh K 2006. Dad. Pages 544–545 in K. Versteegh et al. (eds), Encyclopedia of Arabic Language and Linguistics. Vol I. Leiden, Brill.
Al-Wer E.2004. Variability reproduced: A variationist view of the [.]/[P] opposition in modern Arabic dialects. Pages 21–32 in M. Haak, R. de Jong & K. Versteegh (eds), Approaches to Arabic Dialects: A collection of articles presented to Manfred Woidich on the occasion of his sixtieth birthday. Leiden, Brill.